قصّة عائلة «أبو اليزيد» من (قصور الساف) إلى مرسى مطروح
في مدخل مدينة الحمام يوجد مسجد كبير، بناه «الجراية الاب» والد محمود وهو رمز باق للأثر الطيب لهذه العائلة على الارض المصرية.وامام محلات الجزارة التي تمتلكها عائلة ابو اليزيد في سوق الحمام ،فكان الطفل راضي ابو اليزيد اول من قابلناه يجلس على كرسيه المتحرك وراضي يحمل من اسمه المعنى فهو من ذوي الاحتياجات الخاصة لكنه يشعر بالرضا عما اعطاه الله ويشعر بالامتنان لتلك اللفتة الكريمة للرئيس زين العابدين بن علي الذي اهدى له الكرسي حتى يسهل حركته ويساعده على تجاوز اعاقته وعندما سألته امنيته اجاب على استحياء وعزة انه يتمنى ان يستكمل علاجه حتى يعود الى مدارس التعليم التي حرم منها.
وتجولنا في السوق ودخلنا بالخصوص الى محلات الجزارة لنسلم على شباب عائلة ابو اليزيد ونتعرف عليهم واحدا واحدا ،كما دخلنا الى محل صايغي، ينشط فيه احد الشباب ويدعى حسن وهو يتحدث التونسية بطلاقة، اكثر من اقرانه من ابناء العائلة وعرفت السبب فوالدته تونسية..عكس الاخرين فبعضهم امهاتهم مصريات.
القلب في تونس
ولا يمكن تجاهل حقيقة ان دماء عشيرة ابو اليزيد اختلطت بدماء مصرية عبر العقود واختلف الشكل والمظهر مع الزمن ودخلت عادات من وحي المحيط وامتزجت اللغة ايضا بلهجة بدو الصحراء الغربية ،لكن الملفت ان القيم التونسية الاصيلة مازالت متجذرة فيهم والقلب مازال يخفق على ذكر اسم تونس ويدق بموسيقى تونسية فالانتماء الى الوطن صامد عتي في وجه الزمن ولا تزيده الغربة الا اشتعالا لمشاعر الشوق والحينن الى الوطن حتى ولو بعد المائة والثمانين عاما عمر تلك العائلة في الارض المصرية.
ويؤكد حسني عبد العزيز ابو اليزيد بلسان تونسي طليق، ذلك المعنى قائلا:«علاقتي بتونس رغم اني لم اذهب اليها ولم ازرها ولكن الحاج والدي الذي يعرفها ويحكي لنا عنها، ويروي لنا ان جدوده لم يسعوا ابدا للحصول على الاوراق والهوية المصرية رغم ان ذلك كان متاحا في القديم لو كانوا سجلوا مواليدهم في الدفاتر المدنية المحلية، وانا اشعر بالفخر انني تونسي (ويلتقط من جيب الجلباب بطاقة تعريفه ويريها لي حيث كتب فيها العنوان قصور الساف-ولاية المهدية..والسعادة على محياه)» ويضيف : «عندي اقارب في الحمام اكثر من الف شخص وغالبية اقاربي الاخرين في مطروح..وفخر لي ولاجدادي الذي قدموا منذ بداية القرن الماضي ان اكون تونسيا، فوالدي دائما يقول «احنا القلب في تونس والجسد هنا في مصر..».
فعلا القلب في تونس والجسد هنا في مصر..ذلك ما لمسته في ابناء «ابو اليزيد» جميعهم، حافظوا على سمعة جيدة للتونسي لذلك احبهم الناس في محيطهم وتعاونوا معهم وتمكنوا من تحقيق تنمية في مجتمعهم وعمروا الارض بالخير والنماء.
وعندما كنا نتأهب للذهاب الى منزل الحاج عبد العزيز وهو احد اعمدة التونسيين في مطروح قابلنا رجلا في منتصف العمر يدعى ابو محمود وهو جار مصري قديم للحاج عبد العزيز ورحب بنا واخذ يمدح في التونسيين الذي يعيشون في مطروح قائلا:«هناك تونسيون يعيشون بيننا ، ومنذ زمن هم هنا بنوا واسسوا وشيدوا، ومنذ خلقت وجدتهم هنا، وهم نعم الاصدقاء والجيران ولا نشعر ان هناك فرقا بين المصريين والتونسيين والحاج عبد العزيز صديقي، ومحجوب واحمد ايضا وطول عمرنا عايشين مع بعض اخوان».
من قصور الساف الى الحمام
يوضح لنا السيد محمود الجراية الجانب التاريخي لقصة هذه العشائر فيقول:«في العام 1830 ، اي منذ حوالي 180 عاما ،جاء جدهم الكبير من قصور الساف واستقر بداية في كفر الزيات التابعة لمحافظة كفر الشيخ وتزوج مصرية وانجب 4 ابناء وبنتا ولكنه لم يطل المقام في تلك المدينة وانتقل الى مدينة الحمام بحثا عن البيئة التي تشبه بيئة قصور الساف مسقط رأسه وهناك نشط في تربية الماشية والجزارة وبنى ونمى حيث كان من المؤسسين لذلك التجمع العمراني واصبح الابناء «4عروش» 1190 نسمة ويعيشون في مدينة الحمام، ومثلهم يعيشون في مرسى مطروح.ويضيف الجراية «اخذوا بنصيحة جدهم الذي اوصاهم ان من يتنازل عن جنسيته كأنه يتنازل عن دينه، حتى ان كل حفيد كان يولد من ذرية ابنائة ايام الحماية الفرنسية كان يذهب ليسجله في القنصلية الفرنسية بالاسكندرية،باعتبارها الدولة المحتلة لتونس..وتونس اليوم تتواصل معهم وتحاول ان تحل لهم بعض مشاكلهم مثل التعليم والعمل والخدمات الصحية وانا بنفسي اساعدهم بصفتي عميد الجالية واذهب اليهم في الحمام ومطروح واتفقد حالهم، واوصل اي شكوى لديهم للسفارة والقنصلية التونسية في مصر.
وحول طبيعة المشاكل التي يعانون منها يقول الجراية انهم باعتبارهم غير مصريين فيحتاجون الى تراخيص عمل لمزاولة النشاط، ولم تغفرلهم السنوات الطويلة من الاقامة المتواصلة في اعفائهم من استخراج التصاريح، وتجديد الاقامات ويدفعون من اجلها مبالغ سنوية ضخمة والاجهزة الادارية هنا حقيقة لا تضايقهم اذا عملوا بدون تصاريح لكن المشكلة ان تاخرهم عن تجديد الاقامات يكون غالبا بسبب تكلفتها الكبيرة بالنسبة الى عدد افراد الاسرة الواحدة وبالتالي يعوقهم ذلك عن التحاق ابنائهم بالمدارس الحكومية..اضافة الى مشكلة رسوم التعليم فهم يعتبرون وافدين ومصاريف المدارس والجامعات بالعملة الصعبة وبعدة الاف في السنة لغير المصريين، وامام تلك التكاليف الباهظة التي ليس لهم من سبيل اليها فهم يضطرون الى الانقطاع عن مواصلة تعليم ابنائهم وحرمانهم من الدراسة..وهذه المشكلة رغم انها كانت بندا دائما على اوراق عمل المسؤولين في البلدين غير انها لم تحل الا جزئيا،حيث تم اعتماد مبدإ المنح الدراسية المتبادلة بين الدولتين، بينما الامر يحتاج قرارا يستثنيهم من دفع المصاريف ،ويمنحهم اقامة دائمة بحكم التاريخ الطويل والولادة..وهي اقل عرفان بالفضل على كل ما قدموه لهذا البلد طيلة قرنين، خاصة ان الحل الجزئي لا يتيح الا لعدد محدود منهم الحصول على منحة..
ويلتقط طرف الحديث فايز عوض محمد حسن علي المحجوب، ويقول:«والدي ووالدتي تونسيان،وزوجتي ايضا تونسية وعندي 9 اولاد، ونعاني من مشاكل في التعليم ابني الكبير في التجاري وابنتي في الاعدادي والباقي في ابتدائي وكلنا نعامل كوافدين ولابد ان نحصل على موافقة من ادارة الوافدين في وزارة التربية والتعليم المصرية.
حلم زيارة تونس
ومن جانبه اكد سعد ابو اليزيد وهو مدرب حراس مرمى (20 سنة) انه بصفته تونسيا حرم من مواصلة اللعب في نادي الحمام الرياضي بعد ان اصدر اتحاد الكرة المصري قرار بضرورة استخلاص بطاقة دولية لأي لاعب غير مصري ويشير الكابتن سعد انه توقف عن اللعب بعد قرار اتحاد الكرة «لأني لا استطيع مواصلة اللعب الا ببطاقة دولية واشكر الكباتن في نادي الحمام الرياضي انهم وجدوا لي حلا مرضيا نوعا ما حيث عينوني مدربا معهم واحتضنوني كلاعب تونسي واصبحت مدربا الناشئين»..وشردت قليلا عن محدثي وتساءلت وكلي استغراب ايضا لهذه الوضعية:هل هذا عقاب للجد لانه لم يتنازل عن جنسيته؟
وسرعان ما عدت الى الكابتن سعد وهو يروي لي كم هو فخور بأنه تونسي واشار الى فخره بالمنتخب التونسي لانه من افضل المنتخبات، وكيف انه متفائل بأن تونس ستشارك للمرة الخامسة في كأس العالم وسوف تؤدي اداء حسنا وقال «اتمنى ان ازور بلدي حتى اعرفها اكثر واكثر..وختم بكلمة شكر نطقها بالتونسي بكل تأثر:«يعيشك».
وفتح سعد شهية شباب الجالية التونسية بالحمام للحديث عن الكرة والمنتخب الوطني ،فعبروا عن تطلعهم الدائم الى تونس وانجازاتها على كل المستويات،وتتنزل الرياضة منها موقعا متقدما في اهتمامات النشء من اولاد ابو اليزيد فهم يتابعون ما يحدث في تونس من انتصارات رياضية ومسيرة ممتدة من النجاح ومن تألق اللاعبين..وبالمثل يعبر شقيقه محمود عبد العزيز عن نفس الحلم فيقول:«نحن الجيل السادس والسابع في هذه العائلة وتونس تمثل لي «امي» ونتابع احوال الوطن بشكل مستمر فجذورنا تونسية ونحن متمسكون بها-واظهر لي جواز سفره التونسي وعيناه تشعان فخرا- ونسمع عنها انها اجمل بلد عربي سياحيا واملي ان ازورها مع اخواتي وابناء عمي».
ويضم هاني عبد العزيز ابو اليزيد صوته الى صوت شقيقيه في الرغبة بل الحلم بزيارة تونس مشيرا الى انه تونسي لاب تونسي ومتزوج بتونسية ولديه ابنان عيسى واحميدة، «يعني بيت تونسي بالكامل ولكن لا احد منا يعرف موطنه الاصلي واتمنى ان ارى تونس التي شاهدتها في نشرات الاخبار وفي برامج «قناة تونس7».».
التواصل مع الوطن
اما تميم خليل حسني علي المحجوب (محامي وقائم بأعمال الجالية من كافة الإجراءات القانونية مع المصالح المصرية المختصة) فهو افضل حالا من ابناء عمومته ،لانه زار تونس- كما يقول- «بالرغم ان جدي تونسي ولم ير تونس في حياته بل ولد ومات في مصر الا انني اسعد حالا منه وقد سعدت بتراب البلاد ورائحة البلاد وناسها وجمالها»..
ويوضح:«منذ اكثر من 150 عاما هاجر الجد الاكبر من تونس ايام الاستعمار واستقر في مرسى مطروح..واحفاده ونسلهم مستمرون في نفس المنطقة ويمارسون نفس النشاط الاول اي الزراعة وتربية المواشي والتجارة وبالنسبة لي انا متزوج ابنة عمي تونسية..واتعامل مع السفارة لقضاء شؤون الجالية من اوراق وشهادات ميلاد وبطاقات تعريف وغيره وبالتعاون مع السفارة نحاول ايجاد حلول لبعض المشاكل اذا وجدت..الحمد لله بالنسبة للمشاكل والمشاغل هناك استجابة فورية ونحظى برعياة موصولة من الرئيس بن علي شخصيا، الذي يعطي توجيهاته لتذليل الصعاب- هكذا يبلغنا العاملون في السفارة- وقد يستلزم الامر مناقشة بعض تلك القضايا والمشاكل التي تهم الجالية على مستوى اللجان العليا المختلطة، مثل مشكلة التعليم التي تواجهنا».
«اللمة»..على مائدة العمدة
على مائدة الحاج عبد العزيز عميد عشيرة ابو اليزيد تكتمل «اللمة» حيث الابناء والاحفاد يجتمعون على الطعام وتختلط الاكلات التونسية بالمصرية..
وتكون تونس حاضرة بقوة ولا تنقطع سيرتها في كل الحوارات فهناك متابعة لاخبارها وفرح بمكتسباتها وبالازدهار الذي تحقق منذ التحول وبحرص القيادة التونسية على راحة ابنائها المهاجرين حيثما كانوا خارج الوطن.
ويتحدث الحاج عبد العزيز ابو اليزيد بلسان تونسي صرف ويؤكد:«بصفتنا تونسيين موجودين خارج الوطن فاننا نحافظ على عاداتنا وتقاليدنا كتونسيين ربما اكثر من التونسيين الذي يعيشون في الداخل ،فهناك صلة رحم وتزاور وتقارب بيننا وبين بعضنا،وتونس في دمنا ونشتاق اليها ونحنّ اليها بشكل خرافي ،لم تبعدنا المسافات ولا الزمن عنها،بل اننا نواكب احداثها فنفرح لفرحها ونحزن لاي شيء صغير يصيبها..وتلك ليست مبالغة،فكل من يعيش بعيدا عن موطنه يعلم ما يشعر به اي فرد هنا من الجالية»..
كلمات عمدة عشيرة ابو اليزيد مؤثرة لانها صادرة من اعماقه..ويختتم القول بأنه يتمنى ان يلتقي الرئيس زين العابدين بن علي..وان لديه رجاء ان يساعد ابنه المصاب بنوع من الضمور في العضلات على استكمال علاجه في الخارج حيث تستلزم حالته عملية جراحية بالغة التكاليف.
ومن خلال مشاهدتنا على عين المكان، لاحظنا وجود عدد من الاطفال يعانون بعض الاعاقة..ربما يرجع ذلك الى زواج الاقارب، فهناك حرص ان يتزوج ابن العم من ابنة عمه، حفاظا على استمرار العائلة ونسل العشيرة ، وتلك مشكلة اخرى تحتاج لحديث اخر.
مرسى مطروح - الحمام
ألفة السلامي
«الصحافة»
الاربعاء 11 نوفمبر 2009